الشيخ والزيتون - النص الثاني

 

الشيخُ والزيتونُ

1    في المنزلِ المحاطِ بأشجارِ الزيتونِ يعيشُ شيخٌ كبيرٌ، يرقُدُ في سريرِهِ مُعْمضَ العينينِ، يستمعُ بانتِباهِ إلى أصواتِ مَنْ حوْلَهُ. حفيدتُهُ تهمِسُ قائلةً: "جدّي نام". يسمعُ الآنَ خطواتِ ابنِهِ وزوجتِهِ، وحفيدتُهُ تنسحِبُ مِنَ الغرفة، ويُغْلَقُ البابُ.

2    يفتحُ الشيخُ عينيْهِ ويحدّقُ إلى الغرفةِ، ثمَّ يدورُ على جَنْبِهِ الأيسرِ، فيشعُرُ بالإرهاقِ والانهيارِ الشديديْنِ، ينظرُ عَبْرَ النّافذةِ إلى بستانِهِ، فتبدو لهُ شَجَراتُ الزّيتونِ كأَنّها تنظُرُ إِليهِ مُرتاعَةً، فيبتسمٌ ويتذكَّرُ حياتَهُ المليئَةَ بالحُبِّ والرعايةِ لأُسرتِهِ كما فَعلَ هُوَ لأشجارِهِ. يقتنعُ بأنَّ الحياةَ جميلةٌ، ويعتبرُ الشيخوخةَ جزءًا طبيعيًّا منها.

3    يتذكَّرُ الشيخُ كيفَ كانَ نشيطًا في العملِ، حتَّى أَنَّ ابنَهُ خالدًا أُعجِبَ بِهِ، وقالَ له إِنَّهُ لا يزالُ شابًّا. يؤكِّدُ الشيخُ أنَّهُ سيظلُّ شابًّا حتَّى يموتَ، ويُعبِّرُ عَنْ حُبِّهِ للأرضِ وأشجارِ الزيتونِ، وكيفَ أنَّ الأرضَ تُكافِئُ الأشخاصَ الذينَ يعتنونَ بها.

4    يشعرُ الشيخُ بالتعبِ والضعفِ، ويحاوِلُ لَمْسَ جبينِهِ بيدِهِ المعروقَةِ بصعوبةٍ. يخرجُ إلى النافذةِ ويُراقِبُ بستانَهُ، حيثُ تظهرُ شجراتِ الزيتونِ كما لَوْ أنَّها تنظُرُ إليه. يبتسِمُ ويتذكَّرُ كيفَ زرَعَ هذهِ الشجراتِ قبلَ أربعينَ عامًا.

5    ثمُّ يقرِّرُ الشيخُ الخروجَ إلى الكَرْمِ، ويُعانِقُ الأشجارَ ويحتضنُها بحُبٍّ وحنانٍ، وراحَ ينتقِلُ مِن شَجَرَةٍ إلى أخرى يقبِّلُها ويحتضَنًها، وقدْ هَمَسَ لكلِّ واحدةٍ منها بحديثٍ شائقٍ؛ لَعَلَّهُ تحدّثَ عَنْ نشَأَتِها مَعَهُ، ونشأتِهِ مَعَهَا، ثُمَّ أَخَذَ يُعانقُ جُذوعَ كلِّ الأشجارِ. اثْنتين وثلاثينَ شَجَرَةً!

6    إِنَّهُ يَشْعُرُ الآنَ بقوَّتِهِ وشبابِهِ الدائم، ويتذكَّرُ كيفَ كَانَتْ حياتُهُ حافلةً بالعطاءِ والمساهَمَةِ. لكنَّهُ عندما يعودُ إلى المنزلِ، يشعرُ بالانهيارِ، ويبكي بحشْرَجَةٍ مخنوقةٍ. تطلَّعَ إلى أشجارِ الزيتونِ مرّةً أُخرى، وقالَ بصوتٍ خافتٍ: ستكونين وفيّةً لأولادي وأحفادي، وفيّةً للأرضِ التي حَمَلَتْكِ طَوالَ هذهِ الأعوامِ. وأحسَّ كما لو أنَّ الشُّجيراتِ تُعاهِدُهُ على ذلك، واجتازَ حافَّةَ النافذةِ عائدًا إلى سريرِهِ، واستلقى على جَنْبِهِ الأيسرِ.

7    في الصباحِ، يجدُ أفرادُ عائلتِهِ الأرضَ مبتلَّةً وشُجَيْراتِ الزيتونِ رطبةً، كما لوْ كانَ المطرُ قَدْ تساقطَ، تأتي حفيدتُهُ وتحاولُ أنْ توقظَهُ مرّةً أُخرى، لكنَّها تَجِدُهُ مُعْمضَ العينيْنِ مُبتسمًا بسعادةٍ. فتهزّهُ الحفيدةُ مُحاولةً مرّة أخرى: جَدّي.. جَدّي.. لكنَّه لمْ يُجِبْ. في هذه الأثناءِ كانَتِ الشَّمسُ في الخارجِ ترتفعُ إلى الأُفُقِ، وأشجارُ الزيتونِ تنظرُ إلى الأعلى.

ياسين رفاعية، الأعمال الكاملة. (بتصرف)

     
  • قلم التحديد
  • ممحاة