حَقائقُ وأسرارُ فَمِ الإنسانِ

 

   
 

حَقائقُ وأسرارُ فَمِ الإنسانِ

 

 

1    إذا كانتِ الحكمةُ القديمةُ تقولُ: "العَينُ سِراجُ النَّفْسِ" فإنَّ الفمَ ضِياءُ النَّفْسِ والجسمِ معًا. لِلفمِ عندَ العربِ أسماءٌ كثيرةٌ، فهوَ الثَّغْرُ وَالْمَبْسِمُ، والفُوهُ، وغيرُهَا مِنَ الأَسماءِ الَّتي تدلُّ على ما لهذا العُضْوِ مِنْ أهمّيَّةٍ مُميَّزةٍ، وتنوُّعٍ في الوظائفِ.

2    والحقيقةُ أنَّهُ ليسَ مِنْ عُضْوٍ في جسمِ الإنسانِ يقومُ بعددٍ مِنَ الوظائفِ كالّتي يقومُ بها الفمُ، فهوَ يجمعُ بينَ التذوُّقِ والتقطيعِ والمضغِ وتكييفِ الطعامِ، فَضْلًا عَنِ الهمْسِ والكلامِ والابتسامِ والضحكِ، وما إلى ذلك.

3    وحتَّى وَإِنْ كانَ ساكنًا مُطْبَقَ الشَّفتيْنِ فهو يقومُ بوظائفَ مُعيَّنةٍ، وهوَ ليسَ مُجرَّدَ ممرِّ لدخولِ الطعامِ والشرابِ، ولا أداةٍ للزفيرِ والتكلّمِ فقطْ، بَلْ إِنَّهُ أَعْقدُ جهارٍ مَعروفٍ لِلتبريدِ والتسخينِ، ومِنْ دونِهِ يُمكنُ لِلسوائلِ الساخنةِ والمُثلَّجةِ أَنْ تُتْلِفَ المريءَ والأمعاءَ.

4    ويُعَدُّ اللعابُ الَّذِي تُفْرِزُه الغُددُ اللعابيَّةُ في الفمِ مادّةً فريدةً في تركيبِها ووظائفِها، فهوَ يتولّى أوّلَ عمليّةِ هَضْمٍ للطعامِ الداخِلِ إلى الجسمِ، وهوَ شديدُ الحساسيَّةِ تجاهَ الأطعمةِ المختلفةِ وتذوُّقِها، بالإضافةِ إلى أنّهُ يُنبِّهُنا ويُغرينا بالطعامِ والشرابِ، وغيرِ ذاك.

5    ويختلفُ تركيبُ اللعابِ مِنْ شخصٍ إلى آخرَ، فهوَ مِنْ حيثُ الحجمُ يَصِلُ إلى نصفِ لترٍ يوميًّا، وأقلَّ مِنْ ثلاثةِ لتراتٍ، بينما يُراوحُ تَركيبُهُ بينَ الحُموضةِ والمرارةِ والعُذوبةِ والحلاوةِ.

6    وَرَغْمَ هذهِ الاختلافاتِ اللعابيَّةِ، فإنَّ هذهِ المادّةَ تُمثّلُ بالدرجةِ الأولى التزييتَ للفمِ، مثلَ الزيتِ للمحرِّكاتِ، وَمِنْ شأنِ هذا الزيتِ أَنْ يُسهِّلَ القيامَ بالوظائفِ المحدّدةِ، وَأَنْ يَحْمِيَ تَجويفَ الفمِ وأنسجتَهُ الداخليَّةَ مِنْ أذى الموادِّ الصُّلْبةِ، أَوِ الْمُتهيِّجةِ كالحوامضِ والقلَويّاتِ الموجودةِ بكثرةٍ في الأطعمةِ.

7    ويُعدُّ اللعابُ أيضًا المادَّةَ الأساسيّةَ لغَسْلِ الفمِ، وتنظيفِ الأسنانِ واللَّثَّةِ مِنْ بقايا الطعامِ والبكتيريا، ويُمثّلُ انخفاضُ إفرازِ اللعابِ نتيجةَ مرضٍ أوْ تقدُّمٍ في السنِّ، أولى علاماتِ الخِطَرِ الَّذِي يتهَدَّدُ اللثَّهَ والأسنانَ، وللموادِّ المعدنيّةِ الموجودةِ في اللعابِ دَوْرٌ كبيرٌ في الحفاظِ على الموادِّ المعدنيّةِ للأسنانِ وخاصّةً مادةَ (الكالْسِيوم) الّتي تُشكِّلُ 90% مِنْ تَركيبِ الأسنانِ.

8    ولعلَّ أهمَّ أسرارِ اللعابِ المكتشفةِ حديثًا دَورُهُ في نموِّ الجلدِ والأعصابِ، وفاعليّتُهُ الفريدَةُ في إيقافِ النزيفِ والتئامِ الجروحِ، وهذا هوَ السببُ في لَعْقِ الحيواناتِ لِجروحِها، وهوَ السرُّ في شفاءِ جروحِ الفمِ عادةً بسرعةٍ أكبرَ ممّا هو في أيِّ جُزْءٍ آخَرَ مِنَ الجسمِ.

9    والفكّانِ في الفمِ لا يقلّانِ أهمّيَّةٌ عَنِ اللعابِ، فهُما القاعدَةُ الأساسيَّةُ للأسنانِ، ولا يمكنُ للإنسانُ أنْ يبقى على قيدِ الحياةِ لولا حرَكةِ الفكَّيْنِ، وقدْ أثبتَتِ التجاربُ على الحيوانِ أنَّ الطعامَ إِذا لَمْ يُمضَغْ داخلَ الفمِ يُسبِّبُ المرضَ، ومِنْ حكمةِ اللهِ تعالى أنَّ الطفلَ لا يحتاجُ إلى مَنْ يُعلِّمُهُ كيفَ يُحرِّكُ فَكِّيهِ، أَوْ يفتحُ فَمَهُ ويُغلقُهُ، ولا يحتاجُ إلى مَنْ يُعَلِّمُهُ الرضاعةَ مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، ولا إلى مَنْ يُعلِّمُهُ كيفَ يَمَضغُ الطعامَ.

10    ويتكوَّنُ الفكّانِ في مرحلةٍ مُبكّرةٍ جِدًّا مِنْ عُمُرِ الجَنينِ، أيْ في الأسبوعِ الرابعِ، وتتكوّنُ الأسنانُ في الأسبوعِ العاشرِ، ولكنّها تظلُّ كامنةً داخلَ اللّثّهِ حتّى الولادةِ، وبلوغِ الطفلِ الشهرَ الثالثَ أوِ الرابعَ.

11    ومِمّا يدعو إلى الاستغرابِ أَنْ يؤدِّيَ التقدُّمُ وتحسُّنُ مُستوى الحياةِ إلى انتشارِ أمراضِ الأسنانِ على نطاقٍ واسعٍ، والسببُ في ذلكَ يعودُ إلى الإكثارِ مِنْ تناوُلِ أنواعِ الحلوى والسكَّرِ والأغذيةِ الناعمةِ، والابتعادِ عَنْ أنواعِ الأطعمةِ الطبيعيّةِ والخشنةِ التي تنظِّفُ الأسنانَ وتقوّيها. ويمكنُ تَصَوُّرُ حَجمِ الأذى الذي يُلحقُهُ تسوّسُ الأسنانِ بالناسِ إذا عَلِمْنا أَنَّهُ يُكَلِّفُ مِئاتِ الآلافِ مِنَ النُّقود سنويًّا.

12    يقولُ أحدُ أطبّاءِ الأسنانِ المشهورين في العالَمِ: "إِنَّ نَحوَ 98% مِنْ سكّانِ العالَمِ يعانونَ مِنْ أمراضِ الأسنانِ واللِّثَّةِ، وهناكَ مناطقُ في أوروبّا الغربيَّةِ يُضطَرُّ الناسُ فيها إلى تركيبِ أسنانٍ صناعيّةٍ في سنِّ العشرينَ".

     
  13    لقدْ أصبحَتْ سلامةُ الأسنانِ هدفًا مِنْ أهدافِ الصحَّةِ العامّةِ في كثيرٍ مِنْ دُوَلِ العَالَمِ، حتَّى إِنَّ بَعضَها رفعَ شعارَ: "سلامةُ الإنسانِ مِنْ سلامةِ الأسنانِ"؛ وتهتمُّ معظمُ الدولِ بإضافةِ مادّةِ (الفلورايد) إلى المياهِ، لأنّها تُقلِّلُ أوْ تمنَعُ تأثُّرَ الأسنانِ بالحوامضِ، بحيثُ لا تتعدّى نسبتُها في المياهِ واحدًا إلى مليونَ، ويُضافُ (الفلورايد) أيضًا إلى بعضِ أنواعِ معجونِ الأسنانِ، ويقولُ أحدُ أطبّاءِ الأسنانِ العربِ: "إنَّ بعضَ المناطقِ في الوطنِ العربيِّ لا تحتاجُ مياهُها الجوفيَّةُ إلى مادّةِ (الفلورايد) لوجودِها في المياهِ بشكلٍ طبيعيٍّ".

14    ولا يفوتُنا أَنْ نُشيرَ إلى أَنَّ للعربِ الأسبقيّةَ في طبِّ الأسنانِ، فالطبيبُ العربيُّ الأندلسيُّ أبو القاسمِ الزهراويُّ المُتوَفّى سنة 1013م هوَ مُؤسِّسُ عِلْمِ طبِّ الفمِ والأسنانِ في العالمِ، وقدْ ظَلَّ كِتابُهُ الشهيرُ المُسمَّى "التَّصْرِيفَ" المصدرَ الأساسيَّ للطبِّ والجراحةِ طوالَ القرونِ الوسطى، بَلْ حتَّى الْقَرْنِ السابعَ عَشَرَ فِي الْمُؤلَّفاتِ الغربيّةِ الَّتِي اقْتَبَسَتْهُ بشكلٍ كاملٍ، وَيُذْكَرُ لهذا العالِمِ العربيِّ أنَّهُ أَوّلُ مَنْ أَصْلَحَ الفُكوكَ المكسورةَ باستخدامِ الجبائرِ السلكيَّةِ، وصمَّمَ أدواتِ خلعِ الأسنانِ، وقامَ بأولى العمليّاتِ الجراحيّةِ في الفمِ، كما أجرى عمليّاتِ التجميلِ، فأصلحَ الشفاهَ الْمُشوَّهةَ منذُ الولادةِ، أيْ ما يُسمّى بالشفاهِ الْأَرْنَبِيَّةِ المشقوقَةِ مِنَ الأعلى.




أبو القاسم الزهراوي

أَبُو الْقَاسِمِ خَلَفُ بْنُ عَبَّاسٍ الزَّهْرَاوِيُّ، وُلد في مدينةِ الزهراءِ الأندلسيَّةِ (المتوفّى سنة 1013م)، وهوَ طبيبٌ عربيٌّ عاشَ في الأندلسِ. يُعَدُّ مِنْ أعظمِ الجرّاحينَ والأطبّاءِ الّذين ظهروا في تاريخِ العربِ، ووصفَهُ الكثيرونَ بأبي الجراحةِ الحديثةِ. أعظَمُ مُساهماتِهِ في الطبِّ هو كتابُ "التصريفُ لمنْ عجزَ عنِ التأليفِ"، الذي يُعَدُّ موسوعةً طبّيّةً مِنْ ثلاثينَ مُجلَّدًا. كانَ لمساهماتِهِ الطبّيّةِ سواءٌ في التقنيّاتِ الطبّيّةِ المُستخدمَةِ أوِ الأجهزةِ الّتي صنعَها تأثيرُها الكبيرُ في الشرقِ والغربِ، حتّى أنَّ بعضَ اختراعاتِهِ لا تزالُ مستخدمةً إلى اليومِ.

مِنْ أعمالِهِ:

 عَمِلَ على علاجِ الأمراضِ مِنْ خلالِ تقنيَّةِ الكيِّ.

  اخترعَ العديدَ مِنَ الأدواتِ الجراحيّةِ منها ما كانَ يُساعِدُهُ في علاجِ الأذنِ أوِ الحلقِ.

 ابتكرَ طريقةً لعلاجِ الثؤلولِ مِن خلالِ استخدامِ أنبوبٍ حديديٍّ ومادَّةٍ كاويةٍ.

  توصَّلَ إلى طريقةٍ ناجحَةٍ لإيقافِ النزيفِ؛ وذلكَ عنْ طريقِ رَبْطِ الشرايينِ الكبيرَةِ.

 وصفَ الزهراويّ الملاعقَ الخاصّةَ لخفضِ اللسانِ، وفحصِ الفمِ، ومقصلةِ اللوزتيْنِ.

  صنعَ الخيطانَ الخاصَّةَ بعمليّةِ الجراحةِ، وقدِ استخدَمها في إجراءِ جراحةِ الأمعاءِ، حيثُ صنعَها مِن أمعاءِ القططِ.

 استعملَ قوالبَ خاصّةً؛ بهدفِ صناعةِ الأقراصِ الدوائيَّةِ، وقدْ كانَ أوّلَ طبيبٍ يقومُ بذلكَ.

 شرحَ الكيفيَّةَ الّتي تتمُّ فيها عمليّةُ قلعِ الأسنانِ بلطفٍ، كما أنَّهُ شرحَ أسبابَ كسورِ الفكِّ خلالِ عمليَّةِ القلعِ.
 
         
 

كتابُ التصريف

أتمَّ الزهراويُّ كتابَهُ "التَّصْرِيفُ لِمَنْ عَجِزَ عَنِ التَّأْلِيفِ" عام 1000م، وهوَ مِنْ ثلاثينَ مجلّدًا مِنَ الممارساتِ الطبّيّةِ، والذي جمعَ فيهِ العلومَ الطبّيّةَ والصيدلانيّةَ في زمانِهِ، والذي غطّى نطاقًا واسعًا مِنَ الموضوعاتِ الطبّيّةِ، منها طبُّ الأسنانِ والولادةِ التي جمعَ معلوماتِهِ على مدى 50 عامًا مِنْ ممارستِهِ للطّبِّ، واحتوى على وصفٍ تشريحيٍّ وتصنيفٍ لأعراضِ حوالي 325 مرضًا وعلاجاتِها، والجوانبِ الطبّيّةِ المتعلّقةِ بالجراحةِ والجراحاتِ التجبيريَّةِ والصيدلةِ وغيرِها، إلّا أنَّ محتواهُ الأبرزَ كانَ في الجراحةِ.

وقدْ تَرْجَمَ الكتابَ إلى اللاتينيَّةِ جيراردو الكريموني في القرنِ الثاني عشرَ، والذي ظلَّ يُستخدمُ لخمسةِ قرونٍ في أوروبّا العصورِ الوسطى، وكانَ المصدرَ الأساسيَّ للمعرفةِ الطبّيّةِ بأوروبّا، واستخدمَهُ الأطبّاءُ والجرّاحونَ كمرجعٍ لهم، وظلَّ الكتابُ متداولًا، ويُعادُ طبعُهُ حتّى النصفِ الثاني مِنَ القرنِ الثامنَ عشَرَ. حلَّ كتابُ الزهراويِّ في الجراحةِ محلّ كتاباتِ القدماءِ، وظلَّ المرجعَ في الجراحةِ حتّى القرنِ السادسَ عشَرَ، وقدِ اشتملَ هذا الكتابُ على صورِ توضيحيَّةٍ لآلاتِ الجراحةِ؛ وقدْ ساعدَتْ آلاتُهُ هذهِ في وضعِ حجرِ الأساسِ للجراحةِ في أوروبّا.

وصفَ الزهراويُّ في كتابهِ أدواتِ الجراحةِ التي صنَعها ورسمَها وحدَّدَ طريقةَ استعمالِها، وشرحَ ما يُفْسِدُ الجراحاتِ، وما يتوقَّفُ عليهِ نجاحُها، وقدْ وصفَ كتابَ التصريفِ كيفيَّةَ ربطِ الأوعيةِ الدمويَّةِ بخيوطٍ مِنَ الحريرِ؛ لإيقافِ النزيفِ، وهوَ أوّلُ كتابٍ يُوثِّقُ أدواتِ طبِّ الأسنانِ.

 
  • قلم التحديد
  • ممحاة